فإن
الحياة في رحاب القرآن الكريم حياة لها من المعاني والإيحاءات والدلالات النفسيَّة
ما يعجز قلم البيان عن الإفصاح عنها، وعن مكنون أسرارها وهدايتها للقلوب الغافلة،
والعقول الحائرة.
إن تلاوة هذا الكتاب العظيم،
وتفهُّم ألفاظه ومعانيه، جعلني أقف طويلاً أمام كمال هذا الكتاب في أسلوبه
وبلاغته، وجماله وروعته، وشموله البديع في عقائده وأخلاقه وتشريعاته.
ومن تأمل آيات القرآن، وأمعن فيها النظر، ظهر له صور
ومجالات من دعوة القرآن، فمن ذلك: دعوة القرآن إلى مكارم الأخلاق ومعاليها، ووجوب التحلِّي بها،
ونعيه على المخالفين للفضائل وأصولها، وما ذلك إلا لكون الأخلاق ميزان شرعي يهذِّب
الإنسان، ويرقى به إلى مدارج الإنسانيَّة الفاضلة.
معنى الأخلاق وضرورتها:
ويمكننا تعريف الأخلاق بأنها:
مجموعة من المعاني والصفات المستقرة في النفس، وفي ضوئها، وميزانها يحسن الفعل في
نظر الإنسان أو يقبح، ومن ثم يقدم عليه أو يحجم عنه.
ولهذا كان المنهج السديد في
إصلاح الناس وتقويم سلوكهم، وتيسير سُبُل الحياة الطيبة لهم - أن يبدأ المصلحون
بإصلاح النفوس وتزكيتها، وغرس معاني الأخلاق الجيدة فيها، ولهذا أكد الإسلام على
إصلاح النفوس، وبيَّن أن تغيُّر أحوال الناس من سعادةٍ وشقاء، ويسرٍ وعسر، ورخاءٍ
وضيق، وطمأنينةٍ وقلق، وعز وذل، كل ذلك ونحوه تبع لتغيُّر ما بأنفسهم من معان
وصفات[1]. قال - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لَا
يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
إن من أَجَلّ الغايات التي تريد الرسالة الإسلاميَّة
تحقيقها: تلك الغايةَ الإنسانيَّة السامية وهي:
أن يكون للإنسان خُلقٌ كريم،
وسُلوكٌ نظيف يليق بكرامة الإنسان، ويتفق مع ما خُلِق له من خلافة في الأرض، وهذه
هي الغاية التي حاولها الفلاسفة، والعلماء، والمصلحون عبر قرون مضت، ولم يبلغوا
فيها شأوًا، أو يصلوا إلى تحقيق هذا الأمل المنشود.
إن عناية الإسلام وحرصه على
تحقيق هذه الغاية الخُلقيَّة النبيلة يقصد بها: إيجاد عناصر قوية، وأفراد صالحين؛
كي يستطيعوا أن يسهموا بقلوبهم وعقولهم في ترقية الحياة وإعلامها، وليكونوا أهلاً
لجواره ورضوانه فيما وراء هذه الحياة.
إن المثل الأعلى للأفراد: هو الشرف والنزاهة، والاستعلاء
على الهوى والشهوة، وعرفان الحق والواجب، والاستمساك بأهداف الفضيلة، والاندماج في جوٍّ روحيٍّ
خالصٍ بعيد عن نقائص المادة، وشوائب الروح، والْمُثُل العلى للجماعة: هو التعاون،
والإيثار، والتضحية، وإنكار الذات، والمحبة والمودة، والصدق والإخلاص، والأمانة،
والوفاء، والتسامح، وسلامة الصدر.
وتحقيق المثل الأعلى في جانبيه
يثمر الحياة الطيبة، ويحقق المجد والسيادة، والقيادة والتمكين في الأرض[2].
وهذا كله من آثار الاستجابة
الكاملة للدعوة القرآنيَّة الهادية، التي تأخذ الأفراد والجماعات إلى المثالية
الفاضلة في الإسلام، وفي ذلك حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما بُعثت؛
لأتمم مكارم الأخلاق))؛ رواه أحمد، والحاكم.
وقد اكتسب النبي - صلى الله
عليه وسلم - أخلاقه ومكارمها من الدعوة القرآنيَّة إليها، وإلى التخلُّق بها؛ حتى
كان خلقه القرآن، وحتى مدحه ربُّه - سبحانه - بقوله: {وَإِنَّكَ
لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق